صناعيون يعيدون بناء منشآتهم المدمرة بإمكاناتهم الذاتية بعد أن فقدوا الأمل بوصول أموال المانحين
تم النشربتاريخ : 2015-03-10
نقلا عن الحدث الاقتصادية
دفع تباطؤ وتيرة الإعمار وعدم التزام الدول المانحة بتنفيذ ما تعهدت به من مساعدات مالية بعدد كبير من رجال الأعمال وأصحاب المصانع المدمرة لأخذ زمام المبادرة بأنفسهم وعدم الارتهان إلى وعود مؤتمر المانحين لإعادة الإعمار الذي عقد في القاهرة في الثاني عشر من تشرين الأول الماضي.
ستة أشهر مضت على انتهاء الحرب دون أن يحرك المانحون ساكناً تجاه المتضررين كانت كفيلة لإثبات أن الخطوة التي أقدم عليها رجال أعمال من متضرري الحرب الأخيرة على غزة كانت في محلها وأنهم كانوا الأكثر قدرة على استشراف مستقبل عملية الإعمار ولعل خير دليل على ذلك إقرار عشرات المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة بالمخاطر المترتبة على تأخر وصول أموال المانحين الأمر الذي حذر منه أيضاً نائب وزير خارجية النرويج براد بيدرسون عندما زار الأسبوع الماضي غزة وعبر عن صدمته من حجم الدمار الوحشي الذي خلفته الحرب الأخيرة، ودعا إلى ضرورة البدء والإسراع في عملية إعادة الإعمار، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن بلاده بصفتها الراعية لمؤتمر المانحين لإعادة إعمار غزة وجهت بالتعاون مع مصر خطابات للدول والجهات المانحة لحثها على الإيفاء بما تعهدت به من أموال لإعادة إعمار قطاع غزة.
دوافع الحفاظ على الحصة السوقية
وفي لقاءات منفصلة أجرتها الحدث مع اقتصاديين ونقابيين وأصحاب مصانع أعيد بناؤها عزا خضر شنيورة المدير التنفيذي للاتحاد العام للصناعات عدم انتظار العديد من أصحاب المصانع المتضررة لأموال المانحين وقيامهم باستئناف نشاطهم الإنتاجي؛ بسبب الارتباط الوثيق لمنتجات صناعاتهم بالسوق المحلية واستحواذها على حصة تجارية مجزية في هذه السوق التي عرفت ما تشكله تلك المنتجات من أهمية للمستهلكين، وبالتالي سعى أرباب هذه الصناعات للحفاظ على حصتهم السوقية وزبائنهم سواء في محلات الجملة أو التجزئة.
وقال شنيورة: "أي صانع يفقد منتجاته في السوق تكون هناك فرصة مهيأة لإحلال منتجات مستوردة من الخارج مكان المنتج المحلي الذي له من ينافسه من المنتجات التركية أو الأردنية؛ لذا خشي المنتجون المحليون ممن تضررت منشآتهم الإنتاجية المختلفة من غزو المنتجات المستوردة للسوق المحلية، فعملوا بجهودهم الذاتية وبما هو متاح لديهم من إمكانات على إعادة بناء مصانعهم والعودة مجدداً إلى السوق ومن ثم يفكر صاحب المصنع بالتدخلات الخارجية المرتبطة بالتعويض ويتابع عن كثب التطورات ذات العلاقة بإعادة الإعمار ".
وأوضح شنيورة أن غالبية من استأنفوا نشاطهم وأعادوا بناء وتأهيل مصانعهم ومنشآتهم لجأوا إلى الحصول على قروض أو تسهيلات من البنوك، وذلك لحين وصول التعويضات وقدموا للبنوك ضمانات معينة سواء بعقارات أو أراض يمتلكونها، فيما استعان آخرون منهم بمدخرات لديهم أو قروض شخصية حصلوا عليها من أقاربهم ومعارفهم.
استثمارات ذاتية بعشرات ملايين الدولارات
ولفت الى أن قيمة المبالغ التي استثمرت خلال الأشهر الستة الماضية في مجال إعادة بناء وتأهيل العديد من المصانع التي دمرتها الحرب الأخيرة على غزة بشكل كلي أو جزئي تقدر بعشرات ملايين الدولارات وأن غالبية هذه المصانع التي تركزت بشكل كبير في قطاع الصناعات الغذائية والإنشائية والبلاستيكية تمكنت من استعادة نسبة كبيرة من العمالة التي كانت لديها قبل الحرب، كما تمكنت من إعادة بناء خطوط إنتاج ذات كلفة عالية.
ونوه إلى أن جلَّ الصناعيين الذين عادوا مجدداً لأعمالهم ولهم حصة سوقية في السوق المحلية كانوا ممن توفر لديهم ماكينات وخطوط إنتاج سواء استوردوها من الخارج أو أعادوا تأهيلها محلياً بشكل جزئي وقاموا بإعادة بناء الهيكل الخارجي للمنشأة "البراكس" والبعض الآخر منهم لجأ لاستئجار أماكن جديدة لإقامة نشاطهم.
وبين شنيورة أن اتحاد الصناعات عمل على تنفيذ مسوحات لتقييم حجم الأضرار وقيمتها وساهم بالتدخلات الطارئة من خلال تمويل أجرة العمالة، حيث تم تشغيل أعداد كبيرة من العمال لدى العديد من المصانع التي تضررت وأعيد تشغيلها، إذ تم خلال الأشهر الستة الماضية تشغيل 1100 عامل على دورتين، كل دورة لمدة ثلاثة شهور، وذلك بتمويل من مؤسسة ميرسى كور بمبلغ نحو ثلاثة ملايين شيقل إضافة إلى استمرارية الاتحاد بتشغيل العمالة ضمن برنامج تموله وكالة الغوث "أونروا" بقيمة 9 ملايين يورو وموجه لدعم أربعة قطاعات الصناعات الخشبية والغذائية والخياطة والجلدية، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات وينتهي في شهر تشرين الأول المقبل ومن المتوقع أن يتم تجديده.
ووصف شنيورة ما قام به العديد من أصحاب المصانع بخطوة في الاتجاه الصحيح منوهاً إلى أن الاتحاد يعمل بالتعاون مع مؤسسات دولية للبحث عن برامج ومشاريع تساهم في إعادة الإعمار وتحقق نقلة نوعية للمتضررين بما يمكنهم من العودة مجدداً لممارسة نشاطهم الإنتاجي.
إعمار من أجل الحفاظ على اسم المصنع
من جهته أشار أحمد التلباني الذي يمتلك شركة مصانع العودة للبسكويت والمواد الغذائية التي تم تدميرها خلال الحرب الأخيرة كلياً ولحقت بها خسارة تقدر بنحو 18 مليون دولار إلى أنه عمل بجهوده الذاتية على إعادة تشغيل مصنعه بطاقة إنتاجية تقدر بنسبة 45% مقارنة مع الطاقة الإنتاجية التي كان مصنعه يعمل بها قبل الحرب.
وقال "لم أحصل على شيء سوى مبلغ 800 دولار من الأونروا وهذا بدل إيجار لمنزلي المجاور للمصنع والذي تضرر بشكل كبير، وقدموا لمصنعي المدمر كرسيين وطاولتين وخزانة وست طفايات حريق رفضت استلامها".
وعدّ التلباني أن اسم شركته ومصنعه الذي أسسه في عام 1977 لا يقدر بثمن، وهو أغلى بالنسبة إليه من قيمة الخسارة التي لحقت به منوهاً إلى أنه اضطر للاستدانة من جهات عدة بعد أن لجأ للبنوك التي طالبته بضمانات كبيرة، وبالتالي عمل منذ اليوم الأول لانتهاء الحرب على إعادة بناء مصنعه، وتمكن تدريجياً من استيعاب كافة العاملين لديه (380عاملاً).
وبين أنهم يعملون لمدة تتراوح من ثمانية إلى عشرة أيام شهرياً، وذلك حسب الطاقة التشغيلية المعمول بها في مصنعه المعاد تأهيله، حيث إنه لم يعد ينتج أصناف المنتجات كافة التي كان مصنعه ينتجها قبل تدميره، موضحا أنه يعمل حالياً بطاقة ستة خطوط إنتاج، فيما كان المصنع في السابق يعمل بأحد عشر خطاً إنتاجياً.
ولفت إلى أن المواد التشغيلية كافة من المواد الخام المختلفة دمرت واحترقت، بالتالي يعمل حالياً وفق ما يستطيع توفيره من هذه المواد وفي الوقت ذاته يواصل إعادة إعمار وإصلاح المخازن التابعة لمصنعه والتي تضررت خلال الحرب، واضطر للعمل من خلال مخازن استأجرها، حيث إنه ما زال منذ انتهاء الحرب يعمل على إعادة إنشاء المصنع، وتمكن بعد الحرب مباشرة من إزالة الأنقاض وباشر بعملية إعادة الإعمار في المكان نفسه، حيث أنجز حتى الآن خطوط إنتاج عدة.
وأشار إلى أنه استثمر قرابة ثلاثة ملايين يورو في عملية إعادة بناء مصنعه، منها مليون يورو مدخرات لديه مؤكداً أن قيامه بدفع كل ما يمتلكه واستدانة ضعفي ما كان بحوزته من أموال أفضل بالنسبة إليه من انتظار تعويضات المانحين رغم أنها حق مشروع له ولمتضرري الحرب كافة.
وختم التلباني حديثه بالقول: "حتى الآن لم نتلق أية مساعدة أو تعويض وليست لدينا ثقة في الوعودات التي قطعها المانحون على أنفسهم خلال مؤتمر المانحين الذي عقد في القاهرة فستة أشهر مضت على انتهاء الحرب ولم تقم أية جهة بصرف أي مبلغ لتعويض المتضررين من أصحاب المصانع".
لن نقف مكتوفي الأيدي بانتظار المانحين
أما عبد الكريم اسليم الذي يمتلك مصنع اسليم للمفروشات والاسفنج فأشار الى ان مصنعه تضرر بشكل شبه كلي وأن قيمة الاضرار التي لحقت به قدرت بنحو 3.4 مليون دولارمبيناً انه شرع بعد الحرب مباشرة باستيراد ماكينات من الخارج و قام بجهود ذاتية بالاستدانة والاستعانة بمدخرات لديه .
ولفت إلى أن وتيرة الإنتاج المعمول بها حالياً في مصنعه تعادل نسبة 65% مما كان عليه حال مصنعه قبل تدميره، منوهاً في السياق ذاته إلى أن تراجع القدرة الإنتاجية لمصنعه تزامن مع انخفاض القدرة الشرائية والأوضاع الاقتصادية الصعبة؛ لذا لم يواجه المصنع مشكلة في كثرة الطلب على منتجاته مقارنة مع حجم المعروض من إنتاج المصنع.
ولفت إلى أنه تمكن من إعادة تشغيل عشرين عاملاً من أصل خمسين كانوا يعملون لديه، وأنه استثمر في إعادة بناء مصنعه الواقع في الخط الشرقي شرق بلدة بيت لاهيا شمال القطاع نحو 500 الف دولار مكنته من إعادة بناء خط إنتاج بدلاً من خطين.
وقال: "لو أردت الاعتماد على المانحين لن أعمل، فنحن نريد الاستمرار في إنتاجنا وإن جاءت أموال المانحين فسأستكمل بناء مصنعي كلياً، فأنا لدي عمال ولدي اسم صناعة واعدة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، وبالتالي من الصعب الانتظار مطولاً أو أن أقف مكتوف الأيدي وأنتظر المانحين".
مبادرة ذاتية حكيمة
بدوره عدّ د. معين رجب أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر أن خطوة رجال الأعمال من أصحاب المصانع تعبر عن حكمة في استثمار في الوقت إدارة أعمالهم ومشاريعهم في ظل ظروف صعبة، حيث إنهم لم ينتظروا أموال المانحين، وباشروا بترميم مؤسساتهم وإعادة إصلاح ماكناتهم خلال فترة زمنية وجيزة كي لا يفقدوا زبائنهم.
وقال رجب: "فقد العديد من أصحاب المنشآت بعد مضي أشهر عدة على تدمير هذه المنشآت الصناعية كثيراً من الفرص الإنتاجية والتسويقية، وبالتالي فإن انتظارهم لأموال المانحين سيزيد الأمور تعقيداً، لا سيما أن المؤشرات كافة تدل على أن إعادة الإعمار تحتاج لفترة طويلة، فأخذوا على عاتقهم هذه المبادرة التي فيها تضحية من جانبهم عبر تحملهم كلفة إعادة إعمار منشآتهم، فهذه الخطوة من قبل المتضررين يجب أن تلقى التشجيع والدعم من الجهات المسؤولة كافة، وفي مقدمتها الجهات الرسمية، المفترض أن تتفهم هذا الأمر وتحافظ على حقوق المتضررين من القطاع الخاص، فالحكومة مطالبة من خلال وزارة الاقتصاد التأكيد على حق هؤلاء المتضررين في الحصول على تعويضات مناسبة حين توفرها، وألا يتم حرمانهم بحجة أنهم قاموا بالإصلاح، فحفظ الحقوق أمر وارد لا سيما أنه لن تكون هناك إمكانية لتقييم أضرار من قاموا بإصلاح منشآتهم، وأزالوا الضرر، فهذا الأمر يحتاج إلى توثيق وأخذ تعهدات من الحكومة باستلام تعويضاتهم بمجرد وصول الدعم".
وأضاف: "ما قام به أصحاب المصانع المتضررة خطوة إيجابية من جانب رجال الأعمال الذين يشعرون بالمسؤولية، ولا بد أن تلقى التقدير من الجهاز المصرفي؛ لأن المتضررين يمرون بضائقة مالية، ويحتاجون لتسهيلات مصرفية، كما لا بد أن يضطلع الإعلام بدوره في تسليط الضوء على هذا الأمر؛ لكي تجد خطوتهم آذاناً صاغية لدى الجهات المختصة والدول المانحة بالإسراع في تنفيذ وعودها؛ كي لا يصاب المستثمر المحلي بالإحباط، ويفقد الأمل كلياً بإمكانية تعافي النشاط الاقتصادي في قطاع غزة ".